منذ نهايات السبعينات فى القرن الماضى وهناك توجه عام لدى مصر بتعديل بوصلتها الاقتصاديه الى السوق الحر ، لكن تلك التوجهات قوبلت بعراقيل ومشاكل جعلت البوصله تختل عدة مرات
فمنذ ذلك الوقت لم تصل مصر لدرجة كافة من اقتصاديات السوق الحر ، دائما هناك معوقات اجتماعيه وشعبيه حادة ، ادت الى ترقيع عملية التحول واصابت الاقتصاد المصرى بتشوهات لا تخفى على احد
دائما هناك تخوفات من الاتجاه لسوق حر بشكل كامل ، ما سمى بالاصلاحات النيوليبراليه فى بدايات القرن الواحد والعشرين فى مصر ، قادتها ما عرف باسم (مجموعة جمال مبارك ) ، تلك الاصلاحات لم تكن فى الاساس موجهه لاصلاح تلك التشوهات بشكل جذرى وانما كما قلنا ( لترقيعها ) تفاديا لاى صدمات شعبيه واجتماعيه كبيره تمهيدا لعملية نقل سلطه مصحوبه بازدهار
اقتصادى سريع
لكن كما نعلم جميعا تعرضت تلك التجربه للاجهاض نتيجة تخطيط جيد جدا من جهات صارت معلومه للجميع من اجل تسخين الجبهه الداخليه فى العقد الاول من ذلك القرن وانتهى الامر باشعال حركات احتجاجيه متصاعده و مدبره لتصل الذروه فى بداية 2011 ، بما عرف باسم ثورة 25 يناير
كانت عمليات الاصلاح تبدأ مبكرا فى عصر عاطف صدقى ، حيث جاء الرجل من موقعه كرئيس للجهاز المركزى للمحاسبات ، كان الامر كانه رساله ، خصوصا ان عصر السادات فى ذلك الوقت كان موصوما بفساد الانفتاح المتوقع ، وهناك من يرى انه تم اختياره باعتباره (تنفيذيا) لا يعمل بالسياسه ولا يميل لايدولوجيات معينه ، المهم ان الرجل رغم كافة الانتقادات التى وجهت له ، نجح فى ضبط الاقتصاد الكلى بشكل رائع فعلا اهمها "علاج عجز الموازنة العامة للدولة من أكثر من 20 % فى الناتج المحلى الإجمالى إلى أقل من 1 %( رقم ممتاز ) ، وتخفيض معدل التضخم السنوى إلى نحو 4 %( رقم جيد جدا فى ظل الظروف وقتها اى بدون تعويم او رفع دعم ) ، بالإضافة إلى تحرير سعر الفائدة، وتوحيد سعر الصرف ( كانت موضه سابقه وقتها تثبيت سعر صرف الدولار )، وتكوين احتياطى من النقد أجنبى لدى البنك المركزى المصرى نحو 21 مليار دولار وهو رقم رائع بالنسبه لعصره بلا شك !! اذن فالرجل نجح جدا على مستوى الاقتصاد الكلى بلا شك ، لكن عمليات الانتقال لاقتصاد السوق كانت تسير متذبذبه منذ عصر السادات ، تجربه جديده ومليئه بالعيوب
جاء الجنزورى ، وهو اقتصادى بارع فعلا ، لكنه لم يتلق ضوءا اخضر لاتمام عملية اصلاح اقتصادى كبيره ، لا تزال سياسة الترقيع والانتقائيه هى سيدة الموقف هنا ، كانت مصر تستكمل مشروعات عملاقه مثل مترو الانفاق وبعض الطرق وترعة السلام و منطقة غرب خليج السويس ( التى توسعت لتصبح المنطقة الاقتصاديه لقناة السويس حاليا) ، اضافة الى مشروع توشكى ( فكرة المشروع جيده بالمناسبه ) والعوينات ، اصلاح وظيفى للهيكل الحكومى ، تخفيض عجز الموازنه ، الامور مستقره بشكل كبير ، لكن الاقتصاد لا يزال بعيدا عن فكرة اقتصاد السوق ، لازلنا نتأرجح بين الاقتصاد الاشتراكى حيث لا مساس بالدعم ، وبين اقتصاد رأس المال ، حيث بدأت كيانات جديده فى الظهور كشركات المحمول ، لكن لا تزال الامور كما هى ، تحسن نسبى فى مستويات المعيشه ، اجتذاب للاستثمار الاجنبى فى قطاعات محدوده ، وبدأت نخبة رجال الاعمال فى الظهور ، وعلى ما يبدو ان مزيجا من غيرة مبارك من شعبيه الجنزورى ( بسبب الاصلاحات الوظيفيه الماليه ، واستقرار الاقتصاد فى وقت كانت الازمه الاسيويه و بعدها ازمة روسيا تضرب العالم وبامكانك قراءة المزيد عنهم بالضغط على الروابط ) و ضغوط من طبقة رجال الاعمال التى تريد مجالا اوسع لا يسمح به رئيس الوزراء القوى حيث ان المشروعات كلها تتم من عباءة الدوله ( وتحت اشراف الجنزورى شخصيا وهو ما يشبه فيه كطبع الرئيس السيسى) ، فجاء عاطف عبيد ليتم عملية الخصخصه
وفعلا قام عاطف عبيد بملف الخصخصه كما طلب منه ، قام ايضا بعمل تعويم جزئى للجنيه ، وطبعا لم يلق شعبيه لان تلك القرارات كانت لها تاثيرات سلبيه على عموم الشعب ، ووصمت بالفساد ، وحمل وزرها عاطف عبيد
ثم جاء احمد نظيف بمجموعة الاصلاج النيوليبرالى وبزوغ جمال مبارك ومجموعته
كانت المحاولات فى ذلك العصر تقتصر على جناحين رئيسين
اعطاء كارت بلانش لكبار رجال الاعمال فى مصر ، فتالقت طبقه من المستفيدين ، سمعنا اسماء احمد عز و طلعت مصطفى و حسام ابو الفتوح وبهجت و ابو العنين و ساويرس ومنصور و خميس و حسن راتب و علاء عرفه وغيرهم والذين اصبحوا نجوم المجتمع (ظهروا بشدة فى نهايات التسعينات و قمة تالقهم فى عصر عبيد ونظيف ) ، صعود سريع ، الدوله تفتح لهم كل الابواب ، كل الاستثناءات ، القوانين يتم سنها خصيصا لتسهيل اعمالهم ، قادت تلك الطبقه عملية كبيره من تصعيد القطاع الخاص ، لكن المشكله كانت التصرفات السفيهة للبعض من جهه ، ومن جهة اخرى ان ثمار التحول اقتصرت على تلك المجموعه بالاضافه للصغار اللى شغالين معاهم من الباطن او تحت جناحهم ، اصبح هؤلاء حرفيا فوق القانون ، او فلنقل هم القانون نفسه ، لانهم هم اقتصاد البلد ، وكتابات بلال فضل رغم كل التحفظات ، التى تناولت تلك الطبقه فى ( اهل كايرو ) ، او ( واحد من الناس ) لم تكن بعيده عن مستوى النفوذ لدى هؤلاء ، لان محاسبتهم على اى جرائم كانت تعنى مشكله اقتصاديه فعليا وكلنا يذكر ما حدث بسبب قتل ( سوزان تميم مثلا و علاقتها بطلعت مصطفى ، حيث كان تسبب الامر فى انهيار سريع فى البورصه المصريه تصادف طبعا مع الازمه الماليه انذاك ما تسبب فى هبوط البورصه المصريه من مستوى تاريخى ( نحو 13000 نقطه ) الى مستوى 3500 نقطه تقريبا !! ولم يرجع لمستوى 13000 نقطه الا من عامين فقط ، يعنى استغرق 8 سنوات تقريبا !!!!
الاتجاه الاخر كان الخصخصه ، عمليات بيع لشركات القطاع العام واستمرارها تدريجيا بعد عاطف عبيد، وهذا فى حد ذاته امر مقبول ، المشكله هنا كانت شبهات الفساد القويه ، تربح جمال وعلاء مبارك كان مثالا بسيطا ، لكن هناك شركات بيعت باسعار بسيطه ليتم بيعها بعد ذلك بوقت قليل باضعاف السعر لشركات اجنبيه ، ما يشير بقوه لعمليات السمسره التى كانت تتم ، والاسوا ان الامر كان يتم من خلال البورصه المصريه ، ما يجعل عمليات البيع معفيه من اى رسوم او ضرائب !! يعنى عملية نضيفه تماما ، العمليات بصراحه كانت مشبوهه فعلا وتثير غضب اى شخص ، لان الاسلوب كان فجا للغايه ، ويتجاوز اى قدر معقول من النزاهه احيانا ، ولو كانت حتى شكليه !
اذن عملية التحول لاقتصاد السوق كانت تتم على مستوى راس الهرم ، راس الاقتصاد ، الدوله كانت تنسحب بقوه من كافة المجالات ما تسبب فى انهيار سريع لكثير من الخدمات ، تدهور احوال السكك الحديديه ، الكهرباء ، الطرق ، المشروعات السكنيه ، المترو ، افران الخبز المدعوم ، حتى دعم الفقراء انسحبت منه الحكومه وتركت تلك المهمه للجماعات التنظيميه واليمين الدينى لتقدم تلك الخدمات الاجتماعيه ( جمعيات خيريه و مستوصفات وغيره )، نظير مزيد من المهادنه بين الطرفين و طلبا لرضاء الغرب الذى كان يخطط لشىء اكبر بكثير من هذا التهادن !
ادى هذا طبعا الى تسارع فى عمليات النمو ، رأينا مدن جديده مثل التجمع والشروق و العين السخنه و مارينا وازدهارا لشرم والجونة والغردقة، لكنها تتحول لجيتو مغلق لطبقات معينه بشكل كبير ، حيث خالفت اغلبها المنطق الطبيعى فى توفير اماكن لسكن كل الطبقات ، و تحولت لكومبوند كبير ، ما اضطر سكانها لاستقدام العماله اليها يوميا فى الصباح ثم يغادرونها فى المساء ، على عكس اى مدينه طبيعيه وبالتالى لم يتحقق هنا الغرض من نقل الكثافه السكانيه الى المساحات الواسعه فى الصحراء و تقليل الزحام فى القاهره بل زاد زحام الطرق ومداخل المدينه المختنقه
انخفض فعلا معدل البطاله وارتفع مستوى المعيشه قليلا ، وكان من الممكن ان تستمر الامور فى التحسن البسيط لولا عمليات التسخين الممنهجه والمرتب لها من اجل تغيير شكل وخريطة المنطقه ، ورغم ان الاسلوب المتبع لم يكن مثاليا على الاطلاق لكنه كان خطوات فى الطريق
المشكله كانت ان الاحتكار الحكومى فى العصر الاشتراكى تم انهاءه لصالح عدد قليل من المحتكرين الجدد !!
يعنى بدل من الحكومه كانت تحتكر تقديم سلع وخدمات ، صار هناك بضع رجال اعمال يحتكرون نفس السلع والخدمات !!
وهذا جعل الامر فارغا من المضمون ، ولم تصل ثمار التحول الى الناس ، واثار الامر غضبهم طبعا !!
لقراءة الجزء الثانى ...عصر السيسى ..اضغط هنا
Comments
Post a Comment